Breaking News

حكاية الملائكة الصغار



الملائكة الصغار

تركت يدي مقبض باب غرفة المدرسين الذي أغلقته تواً ورحت أذرع الممر الطويل ماضياً إلى حصتي، وكانت الأفكار تزدحم آنذاك في رأسي حتى ظننت أنه يوشك أن ينفجر مما فيه. وإنني الآن مدرك تماماً أن تلك الأفكار السوداء كانت مقدمة مثالية لما تبع ذلك الصباح من أحداث كادت أن تغير مجرى حياتي.

دعوني أولاً أعرفكم بنفسي، أنا أدعى علي محمد، ولقد بدأت مهنة التدريس أول سنتي هذه، أعلم الرياضيات لطلاب الصف الثالث المتوسط، وسوف أخبركم بأنني لم أكن سعيداً قط في مهنتي، وكان هذا بالتحديد سبب بداية قصتي التي أقصها عليكم.

قلت لكم إن ذهني كان تحت وطأة أفكار سوداء، فهل خمنتم ما هي هذه الأفكار السوداء؟ أنا واثق أنه قد حزر من كان منكم معلماً فأصاب عين الصواب، نعم؛ إنه بلاء التعليم! ولا يعلم بلاء المعلم إلا من جرب أن يكون معلماً.

عندما بلغت باب صفي وقفت إزاءه ويدي على المقبض برهة قبل أن أستجمع همتي وشجاعتي لكي أدخل غرفة التعذيب. وجعلت أتذكر في سخرية مريرة كيف كنت في يومي الأول في مهنتي يومَ دخلت على طلابي وأنا أكاد أطير من الفرح والسعادة غارقاً في نشوة بحار الأفكار المثالية الفاتنة، ثم كيف أدخل على صفي اليوم وكأنما أساق إلى الموت! ولكن هذه البرهة سرعان ما انقضت، ودخلت غرفة الصف وأنا أدير رأسي على وجوه بدت لي وكأنها تموج مظلمةً من شدة ما اجتمع على كاهلي فأثقله منذ بدأت أعلّم. كنت أعلَم أنني لم أكن أنتظر غير القشة التي قصمت ظهر البعير، وسرعان ما جاءت هذه القشة!

فبينا أنا في بداية حصتي أقدم الدرس إذا بأحد الفتية المشاكسين يلتفت إلى الخلف يحدث زميله الذي وراءه وأنا في وسط شرحي، فناديته باسمه فما اكترث لندائي، وأثارني الفتى بذلك فقذفته بقلم اللوح الذي كنت أحمله بيدي وقد بدأت أغضب فأصاب رأسه وآلمه، والتفت الفتى إلي يقول: "ما هذا أستاذ!"، وكنت غاضباً فأخذت أقول بانفعال: "أناديك أناديك وما ترد، ما قلة الذوق هذه! والآن قم وهات القلم"، فنظر إلي الولد (وكان مقدَّم صفه) نظرة تحد وقحة وقال: "لا أريد!"، وعندها صرخ الأولاد كلهم في نفس واحد: "ووووو!"، وضج الصف كله بأصوات الأولاد وهم يصيحون في تشجيع عنيف، ومرت لحظة سريعة والأمر على ذلك وأنا أقلب بصري فيهم ملياً، ثم نظرت إليهم جيداً وأنا أقول في هدوء: "لا بأس بذلك، أنتم لا تريدون أن تطيعوا أوامر معلمكم، وأنا لا أريد أن أعلمكم!"، كان من الواضح أن ردة فعلي هذه كانت من آخر ما توقعه الطلاب أن يصدر عني، وكانت مفاجأة لهم، وفي تلك اللحظة وصل المرشد الطلابي على إثر أصوات طلبتي العالية وكنت أنا أهم بالخروج، وبرز من الباب وهو يسأل ما الأمر، ولم أجبه بشيء سوى أنني حملت أغراضي التي كنت حزمتها وخرجت من الصف تلقاء غرفتَي الوكيل والمدير ونظراته الدهشة تلاحقني، وكان ذلك لأنني نويت أن أسوي معهما إجراءات تركي لهذه المدرسة المتوسطة في الحال فلا أدرسَ فيها حصة واحدة أخرى، وكان هذا هو ما فعلته.

*    *    *

وقفت في الساحة سعيداً بعد تلك الحادثة بأيام في الصباح الباكر، أنظر مبتهجاً إلى طلبتي الجدد وهم مصطفون في طوابيرهم في الساحة. ولكنها لم تكن الساحة القديمة، بل لقد كانت المدرسة جديدة، وساحتها جديدة، والأساتذة فيها جدداً، وكل شيء فيها جديداً علي، والأهم من كل هذا أن طلبتها كانوا من المقاس الصغير الذي أريد!

ودوت صرخة في أرجاء الساحة: "الصف الأول باء!"، وانطلق طابور من الصغار يسحرون الألباب إلى صفهم وأنا أشيعهم بنظرات المحبة والحنان. آه ما أجملهم! يبدون كأنما خلقوا من البراءة والطهر فكأنهم ملائكة صغار! وذكرت في استخفاف ما كان يحذرني به مدير المدرسة المتوسطة يوم كنت مصراً على إجراء انتقالي إلى القسم الابتدائي، واتهامه إياي بأنني كنت مثالياً غير واقعي فيما أظنه بالطلبة الصغار الأطهار، فلما يأس مني ومن اقتناعي بما يقول قام بالمساعدة في نقلي إلى هذه المدرسة الابتدائية.

وهذه الشعبة "ب" كانت إحدى شعبتين توليت مسؤولية تدريسهما، وأما الأخرى فكانت الشعبة "جـ".

كانت غرفة الصف تضج بأصوات ملائكتي الصغار وهم يلهون في طهر وبراءة وأنا أفتح الباب، فإذا الجميع بعد دخولي هادئون ساكتون، ينظرون إلي بعيون منتبهة فاحصة. اعتبرت ذلك بداية مشجعة مرضية، وابتدأت كلامي أشرح لهم أن هذه ستكون حصة لقاء وتعارف، وأننا سنبدأ الدراسة يوم غد بإذن الله، ثم بدأت أعرفهم نفسي وأتعرف من بعد ذلك إليهم، في جو هادئ جميل.

ومضى الأمر على ذلك، وكانت حصة موفقة غرقت فيها في نشوة حلوة جميلة.

دخلت من الغد أول حصتي وكان الطلاب يلهون كما كانوا يوم أمس، غير أنهم بدوا هذه المرة وكأنهم لم ينتبهوا كثيراً لوجودي، فبدأت أنادي بالسكوت، ولم يجد ذلك فجعلت أرفع صوتي حتى قارب الصياح، وعند ذلك فقط بدأ الطلاب يستجيبون، وخفتت أصواتهم حتى توقفوا بعد لأي ما، فتنفست الصعداء وبدأت أشرح درس اليوم وكان عن عملية الطرح في الرياضيات. قلت للطلاب: تصوروا يا أبنائي أن عندنا خمس برتقالات ثم أكلنا منها برتقالتين اثنتين، فكم برتقالة إذن يبقى لنا؟

قالوا: ثلاث برتقالات.

قلت: جميل! إذن نكتب على اللوح "خمسة ناقص اثنين يساوي ثلاثة"، فهمتم يا أولاد؟

وعندها سمعت صوتاً من آخر الصف، وكان القائل ولداً تبدو عليه أمارات البلادة وبطء التفكير، مرتخي الشفة وأجفانه نصف مغلقة، قال: إيش يعني أستاذ، ما تقصد بخمسة ناقص اثنين يساوي ثلاثة؟

فذهبت إلى الولد ونظرت إليه في عطف وتفهم فقلت: قلت لك، خمسة، تخيل أي خمسة، خمس برتقالات مثلاً، وأكلت منها اثنتين، فكم برتقالة أبقيت بعد ذلك؟

كانت نظرة الولد بلا أي تعبير، وكأن وراء عينيه فراغاً لا يملؤه شيء (أعني داخل جمجمته، ولا مؤاخذة!)، ومرت لحظة صمت قصيرة وأنا أنظر في عينيه باحثاً عن أدنى "حياة"، ثم قال الولد أخيراً ونطق "بالجوهرة": أكلت حبتين؟

قلت وأنا أحاول ضبط أعصابي من فرط إعجابي بذكائه العجيب: نعم، حبتين!

قال (بعد المزيد من التفكير): حبتين؟!

واحتجت إلى فترة قصيرة قبل أن أستوعب بأن ما كان الصبي يخبرني به هو اقتراحه النير لما يمكن أن يصلح جواباً صحيحاً عن المعضلة الرياضية المعجزة التي طرحتها عليه، وفي هذه المرة بدأ الغضب يظهر على لساني وأنا أقول له بلهجة لا تخلو من استنكار عنيف: قلت حبتين؟!

ولكنني قررت أن أضبط أعصابي، فما هذا بعد بشيء. وأخذت نفساً عميقاً لكي يساعدني على إرخاء أعصابي، وقلت للفتى: "اسمع بني، ما رأيك بأن تستعمل أصابعك في البداية لكي تساعدك على فهم القصة؟ انظر، لديك يدان، وفي كل يد من الأصابع..؟"، ثم أومأت إلى الفتى برأسي أنتظر جواباً، فما أطال هذه المرة كثيراً حتى قال: "خمسة!"، وحمدت الله في قلبي على أن هذا شيء يعرفه، ثم تابعت كلامي موضحاً: "جميل، إذن لك في يدك خمسة أصابع، وأنا قلت في مسألتي إن لديك خمس برتقالات، افرد إذن أصابع يدك كلها"، وفرد الصبي أصابعه كلها. أكملت شرحي: والآن قلنا إنك أكلت برتقالتين اثنتين، هيا اطو أصابعك معي الآن واحدة تلو الأخرى، تماماً! واحدة، اثنتان. والآن قل لي وأنت تنظر إلى أصابعك المبسوطة، كم برتقالة بقي لك في النهاية؟ نعم نعم صحيح! ما لك تقولها بصوت خفيض كأنك مخطئ أو خائف، ثلاث برتقالات، هكذا تماماً.

حمدت الله على أن نجحت في الوصول إلى شيء في النهاية، ثم قلت للصبي: والآن يبدو لي أنك فهمت الفكرة، دعني أسألك سؤالاً آخر لأتأكد من أنك فهمت الفكرة تماماً قبل أن أكمل الشرح لبقية الطلاب، سبع تفاحات، أكلت منهن ثلاثاً، قل لي كم تبقى إذن.

ووقع الفتى في حيص بيص، فجعل يبسط أصابع يده اليمنى ثم يقبضها وعيناه تذهبان في كل اتجاه. قلت: "حبيبي، اهدأ! استعمل أصابعك كما اتفقنا. هيا، ابدأ بفردها بالترتيب واحدة واحدة، تعال نبدأ، واحد، اثنان.."، فبدا الولد وكأنني قد أنقذته من مأزق عظيم، وبدأ يبسط أصابعه وهو يعد حتى بلغ خمسة، فنبهته إلى الاستعانة باليسرى فأكمل حتى بلغ سبعة، ثم قبضهن وهو يعد إلى ثلاثة، وبذلك تسنى للولد أن يصل إلى الجواب الصحيح، وقاله على أسماعنا بعد أن لبثنا ننتظره في لهفة الوقت الطويل، وصرمنا من أجله من الحصة ما ليس بقليل، قال (بثقة جيدة هذه المرة): ثلاث!

سبحان الله! ذلك أن الولد كان ارتبك وهو ينتقل أثناء عملية الطرح من يده اليسرى إلى يده اليمنى، فأخطأ في واحدة! وبدأ الطلاب يتململون ويتذمرون، ولكنني أسكتهم جميعاً وقد عقدت العزم على أن أجعل من هذا البليد فطحلاً من فطاحل الحساب والرياضيات، ولم أدرك في ذلك الحين إلى أي حد كنت بريئاً مثالياً في أفكاري، وأنني كنت غير بعيد عن الرجل الذي أراد أن يجعل من حماره مغنياً. وهل -ناشدتكم بالله- يغني الحمار، ولو جئتموه بأبرع من شهدته الأرض من أساتذة الفن والغناء؟!

غير أنني قاتلت حتى تعلم الصبي -وقد دق الجرس وانتهت الحصة- كيف يقوم بعملية الطرح على أصابعه، وحملت نفسي إلى غرفة المعلمين بعدما هدني التعب لكي أريح نفسي التي أتعبها ما لقيته مع ذلك الصبي من مشاق من أجل أن أرغم الفكرة على أن تدخل رأسه رغم أنفه.

ثم رن جرس الفسحة بعد حين، وطفق الطلبة يخرجون من غرفهم وهم يعدون في مرح وسعادة إلى الساحة الخارجية. وكان من العادة أن يقف نصف الأساتذة مراقبين في الساحة حفظة للأمن والنظام، ولقد كنت أنا أحد أولئك المراقبين، فوقفت في مكاني المحدد في الساحة. وكنت أنظر إلى الأطفال الصغار وهم يلهون ويمرحون في جو صاخب يفيض حياة، ثم ما لبثت أن رأيت في وسط الزحام فتى يهرع إليَّ وآخر يلاحقه حتى وقفا أمامي يتشاجران ويحتدان في ذلك، وكان مع الأول في يده قرص بلاستيكي صغير مما كان يجيء في تلك الفترة مجاناً مع أكياس رقائق البطاطا "الشيبس"، فجعلت أحاول إسكات الولدين والفصل بينهما كي أفهم القصة، حتى نجحت في ذلك بعد تعب ومشقة، فإذا هذه المعركة من أجل ذلك القرص التافه السخيف. قال الأول (الذي هرع إلي والقرص في يده): أستاذ! يريد خطف هذه مني.

نظرت إلى صاحبه وقلت محتداً: بأي حق تريد أخذ هذه منه؟

قال الثاني وقد بدأ بعض عبرات وجهه يستحيل إلى ما تراه من قطة وديعة بريئة: ضربني أستاذ!

فعدت إلى الأول وأنا أقول غاضباً: لم ضربته!

قال: هو الذي بدأ! نظر إلي وهو يمد لسانه يريد استفزازي.

فرد الثاني في الحال قبل أن أنطق بشيء: هو بدأ! هو بدأ! كان ينظر إلي نظرة استفزاز وتحد.

- كاذب.

- بل أنت الكذاب!

... ومضى الأمر على ذلك وأنا أقلب وجهي بينهما مثلما يفعل البندول الرقاص، ولكن بمعدل أسرع من ذلك! ثم صحت فيهما صيحة زاجرة واحدة: "كفى!"، ونظرت إلى الثاني وقلت: الآن القرص معه، فلم تلحق به إذن. أتريد سرقته!

نط الثاني وهو يقول في انفعال شديد: أنا رأيت القرص وهو على الأرض أولاً فلاحظ ذلك فهجم عليه وانتزعه لنفسه! والله ولله والله!

وما كدت ألتفت إلى الآخر أسأله حتى وثبت إلى الساحة شخصية جديدة، وهي فتى نحيف تبدو من عينيه نظرات الأشقياء والعفاريت، قال: صحيح والله أستاذ، والله العظيم رأيتهم وكان القرص على الأرض ورآه هذا فلما انتبه زميله (ماسك القرص الآن) إليه قام ونط وأخذه ثم راح يعدو إليك كي يسبقه بالشكوى! والله العظيم يا أستاذ والله العظيم!

فاعتقدت أن الأمر قد حسم هنا، ونظرت إلى ماسك القرص الذي هرع إلي أولاً في غضب شديد وأنا أصيح به مزمجراً: هكذا إذن، كنت تريد خداعي!

وأراد العفريت الصغير أن يعاود خداعي ويزلزل ما عرفت من حقيقة الأمر فجعل يصيح في صورة ما أظنها إلا تثير شفقة أصحاب القلوب المتحجرة القاسية، فما بالك بمن مثلي؟ صاح البائس مدافعاً عن نفسه: والله كذابين! والله كذابين!

ولكنني قررت ألا أتأثر بزيف تمثيله مهما بلغ من براعة (وأشهد إنه كان بالغ البراعة، وقد عرفت تفسير مبلغ براعته بعد وقت ليس بطويل!)، وصحت فيه بحدة وصرامة: اسكت، خسئت! هيا أعطه القرص.. قلت هيا أعطه إياه لا تماطل!

وأعطاه القرص وفي عينيه ووجهه عبرات الحزن والانكسار، ولكنني كنت صارماً مع نفسي، ولم أتأثر من ذلك بشيء.

ولما انتهى وقت الدوام رن الجرس وجعل أهل المدرسة -طلاباً وأساتذةً- يسارعون إلى أبواب الخروج يريدون العودة إلى منازلهم، أو الخروج إلى الساحة حيث الحرية على الأقل، وكانت قريباً من ذلك لحظة أليمة، فبينا أنا أجتاز أروقة المبنى وأنا أقصد باب الخروج، إذ سمعت حديثاً يدور بين صوتين صغيرين مألوفين. كان صاحب الصوت الأول يقول حزيناً منكسراً: "تضرب، حرامي! لا أدري كيف أخذتها مني وأنا حزتها قبلك"، ثم سمعت صوتاً آخر يرد عليه وهو هازئ ضاحك: وماذا أفعل لك إذا كان أستاذنا أهبل! هاه هاه هاه!..

ولشدما آلمتني هذه الواقعة، ولبثت حتى أتى الليل وأويت إلى فراشي والصوت الهازئ وما تبعه من ضحكة مجلجلة يطن في أذني ويرتد صداه في ذهني.

ثم أشرق صباح اليوم التالي، وأشرقت معه نفسي إلى حد ما وتفاءلت بيوم أحسن من سابقه، وذهبت إلى صفي وأنا أرتب في ذهني ماذا سألقي عليهم من دروس اليوم. لم يكن إسكات الصف عند دخولي أسهل من المرة السابقة، ولم أكد أهدئهم وأبدأ بطرح درسنا الجديد حتى دق المرشد الطلابي الباب ودخل، وعندها عادت الفوضى والضجة كما كانت وقت دخلت الغرفة أول يومي هذا! وإذا مع المرشد طفل صغير جديد، قال لي إنه طالب جديد سجله أبوه تواً، وكان الطفل يبكي بكاء شديداً ولا يبدو عليه أنه اعتاد المدرسة بمدرسة تمهيدية من قبل أو بنحو ذلك. وأردت بعد إدخاله أن أهدئ الصف من جديد، ولم أكد أبدأ بذلك كرة أخرى حتى رأيت طلاباً بدؤوا بالتهجم على القادم الجديد، وتعييره بأنه "بنّوتة دلوعة" لأنه يبكي هكذا. حاولت تدارك الأمر فنهرت الطلاب الذين يعيّرونه، ثم لم يستجيبوا كلهم فأخرجت طائفة منهم وأمرتهم بالوقوف في طرف الغرفة. وعندها بدأ النظام يعود إلى الصف من جديد، وعدت أمهد لمتابعة ما بدأت فيه من درس الرياضيات، وكان من أسلوبي أنني أشرك معي الطلاب كي يزدادوا لما أشرحه فهماً ويرسخ في أذهانهم فكنت أسألهم وأصحح إذا لزم الأمر، وما مضى من الوقت كثير حتى عدت إلى صاحبنا البليد الذي صرّمت حصة أمس وأنا أحاول تفهيمه، وعييت من انتظاره كل مسألة وهو يطوي أصابعه ويفردها من أجل أن يصل إلى الجواب الشافي! ثم انفعلت وأنا أخبره بأن طريقة الأصابع هذه إنما كانت للتفهيم أولاً، وليس من أجل أن يتخذها منهج حياة! ثم خطر ببالي ما ظننته أولاً فكرة نيرة، فقلت للفتى وعلى وجهي ابتسامة ماكرة: والآن، السؤال الجديد هو: اثنا عشر ناقص خمسة، يساوي كم!

ورأيت الصبي البليد يرتبك بادئ الأمر، ثم رأيته بعد أن جمد قليلاً ينظر إلى قدميه وعلى وجهه ابتسامة بلهاء ولكنها لا تخلو من "شقاوة"، وأدركت في الحال فيم كان يفكر! ونظرت سريعاً إلى قدمه اليمنى فإذا هو باسط إبهام قدمه والإصبع الذي يليه ثم جعل يقبض وهو يحسب حتى فرغ من حسبته وأجابني إجابة صحيحة إذ قال: سبعة! وكنت أنظر في دهشة وطلبتي كلهم يضحكون ويقهقهون!

وكانت نهاية الحصة عندئذ قد اقتربت، فلما دق الجرس خرجت من غرفة الصف إلى غرفة المدرسين.

وأثناء فسحة ذلك اليوم رأيت كثيراً مما لم أره يوم أمس إذ لم يشغلني طفلان بعراك سخيف هذه المرة، فكان مما رأيته أنني رأيت طفلاً صغيراً قد ظفر بمصطبة بارزة جعل منها كرسياً جيداً، فإذا بولد ضخم سمين يأتي ويزيحه فينتزع المكان لنفسه عنوة! ورأيت مجموعة من الطلاب يهزؤون بطالب مسكين يضع على عينيه نظارة كأن واحدة عدستيها الزجاجيتين -من سماكتها- كعب فنجان! وكان يضع بالإضافة إلى هذا في كلا أذنيه سماعات لضعف سمعه، فكان المعتدون يرمونه بالأوساخ ويسخرون منه. ورأيت الطلاب يتقاتلون عند شباك المقصف كي يشتروا ولا نظام بل فوضى، فكان القوي ينتزع من الضعيف دوره وعلى هذا جرت الأمور. ولقد حاولت التدخل في كل هذه الوقائع بالتأكيد ما وسعني ذلك كي أنتصر للضعيف المظلوم وأعطيه حقه، ولكنني أدركت أن مساعدتي للضعفاء محدودة جداً، وأنني لن أستطيع أن أفيدهم كثيراً على المدى الطويل ما لم يستأسدوا هم أنفسهم.

كان لدي في ذلك اليوم حصة عند صف آخر غير هذا، هو صف الشعبة جـ التي حدثتكم عنها من قبل، فلما حانت ساعته ذهبت، وهذا الصف لم أحدثكم أنني درست فيه حصة يوم أمس، وكان صفاً أدركت من أول ما رأيته أنه أسوأ من سابقه، إذ كان طلبته يتواثبون وينطون هنا وهناك كالسعادين! وتعبت كثيراً وأنا أحاول إسكاتهم، ثم  أصابني اليأس وشرحت درسي ومعظمهم يلعبون! وكنت أتجنب معظم شرحي أن أنظر إلى الوراء، وأظل أكتب على لوحة السبورة مولياً ظهري لهم، كيلا أراهم وبعضهم يصنع صاروخاً من الورق كي يقذف به زميله، أو شيئاً آخر من هذا القبيل!

ولم يكن هذا اليوم مختلفاً كثيراً عما قبله، غير أن صبري نفد في لحظة ما، فجعلت أصيح وأصرخ غاضباً حتى جفلوا مني جميعاً. وجئتهم في اليوم التالي ومعي سلك كهربائي لاسع لاذع، قمت أخبط به الطاولات طاولة طاولة أمام الطلاب المبهوتين، وأنا أبربر بشيء مثل: أنكم لا ينفع لكم المدرس الطيب اللطيف، بل تريدون وحشاً يرهب الأطفال كي تجلسوا مؤدبين منضبطين، نعم، هذا هو ما تستحقونه وتستأهلونه بالضبط؛ أستاذ متوحش مرعب قاس! فهاكم إذن!

وجرت الحصة تلك المرة من غير ضوضاء، ولكن في جو لا يشبه جو صف لطيف فيه أستاذ طيب محب ومجموعة من الأطفال البرآء الأطهار (كما كنت آمل وأنتظر)، بل كأننا سيد متوحش وعبيد، إذا صح التعبير!

هذا هو اليوم الثالث كما أخبرتكم، اليوم الثالث فقط، ولكنني شعرت مما اجتمع علي من الضغط أنه قد مر علي أكثر من ذلك. ولم تكن الشعبة الأخرى ب بنفس سوء جـ هذه، ولكن المساكين في ب ذاقوا شيئاً مما أصابني من الغضب في جـ. ولا أعني بكلامي أن الأطفال في ب كانوا بالغي الرقة و"اللطافة" بأي حال، فكثيراً ما تنازع طالبان في الصف فأتدخل في النزاع، أو تستعصي إحدى المسائل على طالب منهم فأحاول جهدي أن أساعده على فهمها. وأصدقكم القول أنني مع كل هذه الاحتكاكات البالغة القرب من الأطفال، ومعاشرتي الطويلة كل يوم لهم، شعرت أنني كدت أصبح واحداً منهم! وأدركت تمام الإدراك لم كان الناس كما ورد في كتب الأدب القديمة، يتندرون بمعلم الصبيان، ويقولون بأن شهادته مردودة باطلة. وأنى لشهادة معلم الصبيان أن تقبل وهو صبي مثلهم! وأنى لشهادة الصبي الصغير أن تكون كشهادة البالغ الكبير!

فلعل عقلي صغر في الأيام الخمسة الأخيرة أكثر مما كبر خلال سني نضجي كلها! خمسة أيام قضيتها في المدرسة الابتدائية فكأنني قضيتها في مارستان للمجانين، وتعلمت أنْ أصدق ما كنت أراه من قبل من المستحيل، وأن وجوه الأطفال هذه الجميلة الملائكية الرقيقة تستطيع في لحظة أن تنقلب إلى وجوه العفاريت (ولم أقل تلطفاً: الشياطين!). وإياك أن تغتر بقوتك فتفكر بشن حرب على الأطفال! فالأطفال هم حتماً الطرف الأقوى، وهم من سينتصرون، فحيويتهم عظيمة عظيمة، ولهم فوق هذا سلاح قوي فتاك، هو أن ليس لهم ما يخسرونه مثلك.

كنت أفكر حزيناً في نفسي المثالية الرومنسية وقت كنت أعلق شيئاً فوق مغطس (بانيو) حمامي بعد انتهاء دوام اليوم الخامس، وأفكر ماذا كان الأطفال في ذهن علي محمد الخيالي الرومنسي، ثم ماذا كانوا في الحقيقة على أرض الواقع. وعندها وقعت المصيبة، فانزلقت قدمي وانكفأت على وجهي، فكسرت قدمي!

كنت راقداً مستلقياً على سرير مريح في المستشفى وقد جبست رجلي وعلقت بحبل ربط بالسقف لما دُق باب غرفتي في اليوم التالي لمصيبتي الصغيرة، وأذنت للمستأذن بالدخول، فإذا هو ليس بمستأذن واحد بل هم مستأذنون كثيرون، ودخل علي طلابي الأعزاء في رفقة أستاذين من المدرسة ودخل معهم البهجة والمرح إلى غرفتي. ورأيتهم قد أحضروا لي هدايا كثيرة، وعلى وجوههم البشر والمحبة، وجعلوا يسألونني باهتمام المحب عما وقع لي ويدعون لي بالشفاء العاجل. لقد كان منظر طلبتي فاتناً وهم يزورونني ذلك اليوم. هل تعلمون بدوا مثل ماذا؟ لقد بدوا مثل ملائكة صغار!!

*    *      *

انتهت اليوم إجازتي المرضية واستعددت لأعود إلى مهنتي. ووقفت في الصباح أمام طلبتي الصغار وقفة وداع، ورأيتهم ينظرون إلي وأعينهم تقول: لقد أحببناك، ويحزننا فراقك.

منذا يصدق أن هذه الوجوه الملائكية ستنقلب إلى وجوه العفاريت حالما تبدأ الحصة عما قريب!

وأعترف بأنني كدت أضعف أمام نظراتهم البريئة لحظة، ولكنني أغمضت عيني وأخذت أسبح في أخيلة ذكرياتي المريرة؛ ذكرت نزاعات كثيرة أردت العدل والحق فيها وكانت (أي النزاعات) من أجل أسباب مغرقة في السخافة والتفاهة فانتهت بأنني كدت أصبح أنا نفسي طرفاً في النزاع، وذكرت تحديداً يوم تنازع الصبيان من أجل القرص البلاستيكي أثناء الفسحة وانتهى الأمر بأن ضحك علي طفلان صغيران. ذكرت ما لا يحصى من الأيمان الكاذبة حلف بها "ملائكتي الصغار" ويكررها أحدهم في الجملة الواحدة في بعض الأحيان ثلاث مرات أو تزيد، تعلموا ذلك من أهليهم الطيبين جزاهم الله كل خير وأجزل! ذكرت حوادث من الغش والغدر والسرقة كنت شاهداً عليها بنفسي، وحوادث أكل القوي فيها الضعيف، حتى مع محاولاتي في حماية الضعيف، ورأيت أصدقاء خانوا أصدقاءهم وأفشوا أسرارهم ولم يحفظوا عهداًَ. لقد تعلمت في تلك الأيام الخمسة أن مدرسة الأطفال الابتدائية ليست إلا صورة مصغرة لعالمنا الحقيقي الكبير، حيث يسحق القوي الضعيف، ورأيت أن الأطفال ليسوا ملائكة صغاراً على الإطلاق، بل إن لهم رذائلهم، ولكنها مثل أحجامهم الصغيرة بالنسبة إلى أحجامنا، رذائل مصغرة عن رذائل الكبار في العالم الكبير! فمن كان يسرق أقلام زملائه من حقائبهم في المدرسة يستعد لأن يصبح نشال محافظ حينما يكبر، أو مختلساً محترفاً ليس له وازع، والذي بطش بالضعفاء في المدرسة سيصبح متكبراً شريراً يبطش بالمسحوقين المساكين من أهل الطبقة الدنيا في المجتمع ويأكل حقوقهم لأن لا حامي لهم، وقل مثل ذلك في سائر الرذائل الأخرى.

وقلت بعد هذا وأنا أفتح عيني مستيقظاً من حلم اليقظة ذاك: لا؛ لن أضعف أمام منظرهم البريء، فأنا أعلم أنني اتخذت القرار الصحيح حين أردت فراقهم.

وانتبهت عندها إلى وجه أستاذ يحدق فيَّ متعجباً وكان في جواري، فلما نظرت إليه وقلت موضحاً: "لا شيء، لقد كنت أحدث نفسي"، لوّى وجهه استنكاراً!

*    *      *

عدت إلى طلبتي القدامى في المتوسطة بعد ذلك. أحمد الله أن المدير كان متعاوناً في إجراءات إرجاعي وكأنه كان يتوقع ذلك! وقد تلقاني طلبتي الشباب بالترحيب المعسول حينما دخلت صفي، ولم أقدم لهم أي شرح عما وجدته في أيامي التي غبت فيها عنهم، بل انتقلت إلى الدرس بعد السلام وترحيب العودة سريعاً.

ويظهر أن الطلبة ما انفكوا يتحينون فرصة أخرى لامتحاني! فلما حانت اللحظة وأمرت أحدهم أن يمسح لوح السبورة أخذ موقف المتحدي وقال: "لا أريد!"، وأراد الصف أن يفور مثلما فار المرة الماضية، فحملت دفتر العلامات وأنا أقول بهدوء بالغ والقلم بيدي الأخرى وأنا أنظر في الدفتر: "لا تريد؟ كما تشاء. ولكن هذا موقف يستحق أن يسجل عليك. قم يا فلان (وذكرت آخر)"، عندها قام الولد المتحدي من مكانه متضاحكاً وهو يستجديني ويسألني في ذل تمثيلي أن أمسح علامته، ثم لما رآني لا أكترث له كثيراً لم يدع زميله يقوم وسارع إلى السبورة يمسحها بنفسه، وعاد إليَّ يستعطفني وهو باسم ضاحك ويعدني أنها كانت مزحة لن تتكرر، قلت للفتى في صرامة إن مثل ما سجلته عليه لا يمكن أن يمحى من موقف صغير واحد، ولكنني سأفكر في تعديله بالتأكيد إذا رأيت السلوك حسناً على المدى الطويل. ثم أغلقت دفتري والتفت إلى اللوح، وبدأت أكتب رؤوس الأقلام وأنا أحدث الطلاب وأعطيهم مدخلاً لدرسنا الجديد...

صحيح أن طلبتي في المتوسطة ليسوا ملائكة صغاراً، ولكني اكتشفت أنني أستطيع أن أحسن التفاهم معهم على الأقل.

ليست هناك تعليقات