فوائد أن يبقى اليسار مشتتا
فوائد أن يبقى اليسار مشتتا
قبل أن تتوحد منظمة العمل الديمقراطي الشعبي مع تيارات يسارية أخرى كانت حزبا قويا، ومؤثرا إعلاميا وسياسيا، وبعد مجيء الساسي وبعض من اليسار الجديد، تحولت هذه الوحدة إلى لعنة، واختزل كل هذا التجمع في مقر موروث بالدار البيضاء يجتمع فيه الغاضبون بين الفينة والأخرى ويختبىء فيه مناضلو 20 فبراير، وفي مكان يصلح لالتقاط الصور مع بنسعيد أيت إيدر.
وحتى في فرنسا، وحينما فكر التروتسكيون والشيوعيون وبعض الخارجين من الحزب الاشتراكي في توحيد صفوفهم، انتهى بهم المطاف إلى نتائج مخجلة، جعلتهم يحنون إلى زمن التشرذم.
رغم ذلك، مازال اليساريون يلحون على عزف موسيقى الوحدة، ومازال هناك من يعتقد أن ذلك ممكن، وبمجرد حصوله، سيكتسح شعب اليسار الانتخابات وسيعود إليه المجتمع، كما كان الحال في الماضي.
إنها مهنة تربية الوهم والحدب عليه، والتي يمارسها هذا اليسار منذ عقود، دون أن يكتشف يوما أن الزمن تغير، وأن بعضا من الحلول يتمثل في البحث عن مهنة أخرى أكثر نجاعة وارتباطا بالواقع.
لم يسبق، ولا مرة في التاريخ، أن اقتنع ما يطلق عليه لقب اليسار الجذري في المغرب بوجود يسار آخر غيره، الكل كان ولا يزال في نظره تحريفيا وإصلاحيا ومرتميا في أحضان المخزن، وعندما يراجع هذا النوع من اليسار قناعاته لا يصبح إصلاحيا ومعتدلا، بل يذهب مباشرة إلى السلطة ويشتغل في صفها وفي أحزابها، ضدا على ذلك اليسار الذي كان لا يكف عن شتمه.
كما لم يحدث أن دعم هذا اليسار البطل أحزابا يسارية معتدلة، كان دائما ضدها، وكان كل جهده المعرفي والإيديولوجي والنضالي يضيعه في تسفيهها وكشف عيوبها للجماهير، مقدما خدمة كبيرة للسلطة ودون مقابل يذكر.
وإذا كانت تصح المقارنة، فإن السلفيين في المغرب هم أكثر واقعية من هذا اليسار الجديد، وأكثر تخلصا من الأوهام منه، ولذلك دعا المغراوي والفيزازي إلى التصويت على العدالة والتنمية. في حين مازال النهج والطليعة وما شابههما يعتبرون اليسار الآخر كافرا ولا يجوز الاقتراب منه، وكل من فعل ذلك سيكون مصيره جهنم ويسيحرم من جنة الوهم التي يحلم بها.
يعرف اليساريون الذين يعيشون في الواقع أن اليسار لم يعد موجودا إلا في الخطاب وفي المعارضة، لأنه من المستحيل أن تكون يساريا كما تحلم بذلك وأنت تمارس الحكم، نظرا لتغير العالم ولسياق العولمة، الذي يتنفس الليبرالية والرأسمالية، والذي لا يمكن لأي دولة أن تعيش بمعزل عنه، إلا إذا كان نموذجها هو كوريا الشمالية أو تتوفر على احتياطي كبير من الغاز أو النفط كما هو الحال بالنسبة إلى فنزويلا.
ليس عيبا أن يحلم اليسار بالوحدة، لكنه حلم غير مفض إلى أي نتيجة، لأنها حتى لو تحققت، فهذا اليسار الجذري مجتمعا وبكل فصائله وتياراته وأحزابه لا يشكل حتى واحد في المائة من الخريطة السياسية المغربية، إنه مجرد ظاهرة صوتية تعيش على الحنين إلى الماضي.
هناك اليوم في المغرب حقيقة لا يمكن القفز عليها: إسلاميون في الحكومة وإسلاميون وسلفيون يستعدون على قدم وساق لتنظيم أنفسهم في ظل مجتمع يميل إلى نزعة محافظة ويقبل بسهولة خطابا رجعيا وأخلاقيا يعد الناس بحلول في الأرض والسماء، وهناك أحزاب ليبرالية ويسارية وأخرى تنتمي إلى وسط اليمين لها قدرات تنظيمية وتجمع بينها رؤية مشتركة إلى مغرب منفتح يتقدم تدريجيا إلى الحداثة والديمقراطية، وهذه الأحزاب، وحتى القريبة منها إلى السلطة، هي وحدها التي بمقدورها أن تشكل تحالفا يمكنه أن أن يواجه مد الظلام الذي يزحف بخطى واثقة، أما أن يظل اليسار ينتظر اللحظة التي سيتوحد فيها مع النهج والطليعة والحزب الاشتراكي الموحد، فهذا يعني أن مرض الوهم أصاب الجميع، وأن الجهة الوحيدة الآن التي تفكر بعقلانية هي التيارات الإسلامية المنظمة وتلك التي تنتظر فرصتها.
يبدو أن الصراع السياسي الوحيد الموجود الآن في المغرب، هو بين الديمقراطيين وغير الديمقراطيين وبين الحداثيين والمنفتحين على العالم وعلى الكونية، وبين الرجعيين المنغلقين على هوية ثابتة توجد في الماضي، غير ذلك هو تجاوز للواقع وركوب للوهم وتنطع فرجوي لا يفضي إلى نتيجة.
لقد انتهى اليسار بالشكل الموجود في رؤوس من يسعون إلى توحيده، وأن توحد شيئا انتهت صلاحيته يعتبر نوعا من الجنون، شتتوه إذن وسيكون ذلك أفضل، وليبق الذين ينتظرون الثورة ينتظرونها في مقراتهم القديمة والمغلقة، وليبحثوا عنها كما يشاؤون، وليتوحدوا مع رفاقهم في العالم، وليحلموا ويناضلوا كما يحلوا لهم، أما الحياة، لمن يريد أن يستمر حيا، وأن يكون ابن هذه اللحظة، فهي في مكان آخر.
ليست هناك تعليقات